ثــــورة ‬الـجــــرارات
صاحب المقال: بـونـــــــــوا بـريـفـــــــــي
تاريخ النشر : فبراير 2024

إفتتاحيات أخرى

To access this post, you must purchase إشتراك جانفي/كانون الثاني 2023.

على مدار مونولوغه المتلفز الذي استغرق ساعتين من الزمن يوم 16 جانفي/كانون الثاني الماضي، لم يخصص إيمانويل ماكرون أكثر من خمس ثوان للحديث عن أوضاع المزارعين ومصيرهم. ذاك، قطعا، شاهد جلي على تبصر الرجل: بعد يومين من هذا المونولوغ، اندلعت واحدة من أكبر عمليات التعبئة للمزراعين خلال العقود الأخيرة. في أنحاء فرنسا الأربع، سدت الجرارات الحركة على الطرق السريعة، وألقي مربو الماشية الطين أمام كبرى المحلات التجارية (السوبر ماركت)، وتم حرق الإطارات المطاطية في ساحات مقرات البلديات، مثلما تم استهداف مقرات المحافظات ومكاتب المسؤولين المنتخبين…

لكن المؤشرات المنذرة باحتمال اندلاع موجة غضب الفلاحين، كانت قد تضاعفت بالفعل خلال الأسابيع الأخيرة. ففي أوروبا، هزت عمليات التعبئة كلا من ألمانيا وبولونيا ورومانيا وهولندا وإسبانيا وبلجيكا. ولكن أيضا فرنسا، حيث يقوم المزارعون، منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بقلع لافتات الطرق المركزة عند مداخل القرى وقلبها رأسا على عقب، كرمز لمهنة «تسير على رأسها». وفي العاشر من شهر جانفي/كانون الثاني، وفي بيان صحفي تضمن تحذيرات مثيرة للقلق، بلغ الأمر بست مركزيات نقابية أوروبية، حد التنبيه إلى أن الوضع أصبح «غير قابل للتحمل»، ويمكن أن «يهدد بقاء وديمومة المنتجين في الاتحاد الأوروبي».

وبالفعل، فإنه ومنذ فترة طويلة، كان المزارعون في القارة العجوز، يسيرون على حبل مشدود، إذ أنهم غارقون في الديون، ويتعرضون إلى ضغط رهيب يصل حد الدهس من قبل كبرى مراكز التوزيع التجاري وعمالقة الصناعات الغذائية، ويعانون من موجات جفاف وفيضانات متكررة، واضطروا إلى مسايرة تيار المنافسة الأجنبية ومنتجاتها المنخفضة السعر، ويعيشون في حالة تبعية لنظام إعانات ومنح يعطي الأفضلية لكبار المستغلين الزارعين. ومنذ بدء الحرب في أوكرانيا، أصبحت الصورة أكثر قتامة. فمع إلغاء الرسوم الجمركية وإنشاء «ممرات التضامن» التي قررتها بروكسل، غمرت السلع الزراعية الأوكرانية أوروبا الشرقية، مما أدى إلى انخفاض الأسعار، الذي أضحى يطال مستقبلا القارة بأكملها ويؤثر على مداخيل المزارعين، الذين ارتفعت فواتيرهم المختلفة (الطاقة، المياه، المعدات، والبذور…) بشكل كبير. إيرادات في انخفاض، وتكاليف إنتاج في ارتفاع، وكل ذلك في قطاع هش بالفعل: أدنى شرارة يمكن أن تشعل… السهل.

وفي ألمانيا، كان إلغاء الخصم الضريبي على الديزل؛ وفي بلجيكا وهولندا، هناك مشاريع تهدف إلى الحد من حجم القطعان؛ في فرنسا زيادة في «رسوم التلوث».. ومن خلال تركيزهم على القطرة التي أفاضت الكأس، عوضا عن السيول التي ملأته، اختزل المعلقون مدلولات موجة الغضب، ليتحدثوا عن حركة احتجاجية «على المعايير البيئية»، كما لو أن المزارعين هم من حيث القاعدة والاصل، غير مبالين بأزمة المناخ. وهذا على وجه التحديد ما يستنكره ويدينه المتظاهرون في مختلف أنحاء أوروبا: عدمية نظام يجعلهم يساهمون في تدمير أنفسهم، من خلال الدفاع، جراء الافتقار إلى بدائل متاحة فوريا، عن المبيدات الحشرية التي كانوا أول ضحاياها، وعن المكاسب في مستوى الإنتاجية التي تقودهم إلى استبدال أنفسهم بروبوتات، مما يؤدي إلى الإضرار بالبيئة التي يعتمد عليها نشاطهم.

وللإشارة، فإن حصة المزارعين في السكان النشيطين الفرنسيين قد تراجعت من %35 سنة 1946 إلى أقل من %2 حاليا. ويراوح مستقبل عالم الفلاحين بين ثلاثة آفاق. أولها، التلاشي، تحت تأثير التقسيم الأوروبي للعمل ودخول دول ذات إنتاج مرتفع من الحبوب إلى الاتحاد الأوروبي. وثانيها، البقاء، من خلال انتهاج المسار الذي تفرضه البيروقراطيات وصناديق الاستثمار، مسار التصنيع المحموم – ولكن مقابل كلفة كارثية على البيئة والبشر، وهو مسار تسبب، هنا وهناك، في انتفاضات مدارها الأرض. أو ثالثا، النضال، من أجل فرض نشاط زراعي بمعايير يحددها الفلاحون، الذي من شأنه استرجاع دورها الأصلي كممون بالغذاء، مع ضمان استقلالية عمالها.

فمن هي القوة السياسية التي ستكون قادرة على اقتراح هذا المسار؟ يطمح الكثير من المربين والمزارعين إلى تدشين ذاك المسار، مثلما يتطلع إليه المستهلكون، كما يقتضي منطق العقل والمصلحة بعيدة المدى، تبنيه والانخراط فيه.

 

إشتراك سنوي + 24 أخر عدد

إشتراك سنوي

إشتراك سنوي

العدد الحالي

العدد الحالي

إقتناء العدد الحالي فقط

Share This